فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هاروت وماروت}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة السابعة: حكم قتل الساحر:

في أنه هل يجب قتلهم أم لا؟ أما النوع الأول: وهو أن يعتقد في الكواكب كونها آلهة مدبرة.
والنوع الثاني: وهو أن يعتقد أن الساحر قد يصير موصوفًا بالقدرة على خلق الأجسام وخلق الحياة والقدرة والعقل وتركيب الأشكال، فلا شك في كفرهما، فالمسلم إذا أتى بهذا الاعتقاد كان كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل.
وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه لا تقبل توبته، لنا أنه أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» أما النوع الثالث: وهو أن يعتقد أن الله تعالى أجرى عادته بخلق الأجسام والحياة وتغيير الشكل والهيئة عند قراءة بعض الرقي وتدخين بعض الأدوية، فالساحر يعتقد أنه يمكن الوصول إلى استحداث الأجسام والحياة وتغيير الخلقة بهذا الطريق، وقد ذكرنا عن المعتزلة أنه كفر قالوا: لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه الاستدلال بالمعجز على صدق الأنبياء، وهذا ركيك لأنه يقال: الفرق هو أن مدعي النبوة إن كان صادقًا في دعواه أمكنه الإتيان بهذه الأشياء وإن كان كاذبًا تعذر عليه ذلك فبهذا يظهر الفرق.
إذا ثبت أنه ليس بكافر وثبت أنه ممكن الوقوع فإذا أتى الساحر بشيء من ذلك فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر، لأنه حكم على المحظور بكونه مباحًا، وإن اعتقد حرمته فعند الشافعي رضي الله عنه أن حكمه حكم الجناية، إن قال: إني سحرته وسحري يقتل غالبًا، يجب عليه القود، وإن قال: سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد وإن قال سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ تجب الدية مخففة في ماله لأنه ثبت بإقراره إلا أن تصدقه العاقلة فحينئذ تجب عليهم هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه وإن شهد شهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل، وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال: سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في الساحر: يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد، فقال: الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ومن كان كذلك إذا قتل قتل، واحتج أصحابنا بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر فهو فسق فإن لم يكن جناية على حق الغير كان الحق هو التفصيل الذي ذكرناه.
الثاني: أن ساحر اليهود لا يقتل لأنه عليه الصلاة والسلام سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب، فلم يقتلهما فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» واحتج أبو حنيفة رحمه الله على قوله بأخبار، أحدها: ما روى نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها فبلغ عثمان فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قتلت بغير إذنه، وثانيها: ما روى عمرو بن دنيار أنه ورد كتاب عمر رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر، وثالثها: قال علي بن أبي طالب: إن هؤلاء العرافين كهان العجم، فمن أتى كاهنًا يؤمن له بما يقول: فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
والجواب: لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة فإن حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة، وأما سائر أنواع السحر أعني الإتيان بضروب الشعبذة والآلات العجيبة المبنية على ضروب الخيلاء، والمبنية على النسب الهندسية وكذلك القول فيمن يوهم ضروبًا من التخويف والتقريع حتى يصير من به السوداء محكم الاعتقاد فيه ويتمشى بالتضريب والنميمة ويحتال في إيقاع الفرقة بعد الوصلة، ويوهم أن ذلك بكتابة يكتبها من الاسم الأعظم فكل ذلك ليس بكفر، وكذلك القول في دفن الأشياء الوسخة في دور الناس، وكذا القول في إيهام أن الجن يفعلون ذلك، وكذا القول فيمن يدس الأدوية المبلدة في الأطعمة فإن شيئًا من ذلك لا يبلغ حد الكفر ولا يوجب القتل ألبتة، فهذا هو الكلام الكلي في السحر والله الكافي والواقي. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر}:

قال الفخر:
أما قوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر} فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفرًا لا يوجب الكفر، فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر، وعلى أن السحر أيضًا كفر، ولمن منع ذلك أن يقول: لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، بل المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر، فإن قيل: هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر، فلو كان تعليم السحر كفرًا لزم تكفير الملكين، وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون وأيضًا فلأنكم قد دللتم على أنه ليس كل ما يسمى سحرًا فهو كفر.
قلنا: اللفظ المشترك لا يكون عامًا في جميع مسمياته، فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على النوع الأول من الأشياء المسماة بالسحر، وهو اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات، فهذا السحر كفر، والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام.
وأما الملكان فلا نسلم أنهما علما هذا النوع من السحر، بل لعلهم يعلمان سائر الأنواع على ما قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} وأيضًا فبتقدير أن يقال: إنهما علما هذا النوع لكن تعليم هذا النوع إنما يكون كفرًا إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيته وكونه صوابًا، فأما أن يعلمه ليحترز عنه فهذا التعليم لا يكون كفرًا، وتعليم الملائكة كان لأجل أن يصير المكلف محترزًا عنه على ما قال تعالى حكاية عنهما: {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} وأما الشياطين الذين علموا الناس السحر فكان مقصودهم اعتقاد حقية هذه الأشياء فظهر الفرق. اهـ.
قال الفخر:
قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو بتشديد {لكن} و{الشياطين} بالنصب على أنه اسم {لكن} والباقون {لكن} بالتخفيف و{الشياطين} بالرفع والمعنى واحد، وكذلك في الأنفال: {ولكن الله رمى} {ولكن الله قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] والاختيار أنه إذا كان بالواو كان التشديد أحسن، وإذا كان بغير الواو فالتخفيف أحسن، والوجه فيه أن {لكن} بالتخفيف يكون عطفًا فلا يحتاج إلى الواو لاتصال الكلام، والمشددة لا تكون عطفًا لأنها تعمل عمل إن. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هاروت وماروت}:

.قال الفخر:

{ما} في قوله: {وَمَا أَنَزلَ} فيه وجهان.
الأول: أنه بمعنى الذي ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال.
الأول: أنه عطف على السحر أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضًا.
وثانيها: أنه عطف على قوله: {مَا تَتْلُواْ الشياطين} أي واتبعوا ما تتلوه الشياطين افتراء على ملك سليمان وما أنزل على الملكين لأن السحر منهما هو كفر وهو الذي تلته الشياطين، ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما، وثالثها: أن موضعه جر عطفًا على {ملك سليمان} وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله، وأنكر في الملكين أن يكون السحر نازلًا عليهما واحتج عليه بوجوه.
الأول: أن السحر لو كان نازلًا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك، الثاني: أن قوله: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر} يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل.
الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى، الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] ثم إنه رحمه الله سلك في تفسير الآية نهجًا آخر يخالف قول أكثر المفسرين، فقال: كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر مع أن المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر، وذلك لأن المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير، وإنما كانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} توكيدًا لبعثهم على القبول والتمسك، وكانت طائفة تتمسك وأخرى تخالف وتعدل عن ذلك ويتعلمون منهما أي من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فهذا تقرير مذهب أبي مسلم.
الوجه الثاني: أن يكون {ما} بمعنى الجحد ويكون معطوفًا على قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سليمان} كأنه قال: لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانت تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، فرد الله عليهم في القولين قوله: {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} جحد أيضًا أي لا يعلمان أحدًا بل ينهيان عنه أشد النهي.
أما قوله تعالى: {حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي ابتلاء وامتحان فلا تكفر وهو كقولك ما أمرت فلانًا بكذا حتى قلت له إن فعلت كذا نالك كذا، أي ما أمرت به بل حذرته عنه.
واعلم أن هذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن القول الأول أحسن منها، وذلك لأن عطف قوله: {وَمَا أَنَزلَ} على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل منفصل، أما قوله: لو نزل السحر عليهما لكان منزل ذلك السحر هو الله تعالى.
قلنا: تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه كما قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه

قوله ثانيًا: إن تعليم السحر كفر لقوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر}، فالجواب: أنا بينا أنه واقعة حال فيكفي في صدقها صورة واحدة وهي ما إذا اشتغل بتعليم سحر من يقول بإلهية الكواكب ويكون قصده من ذلك التعليم إثبات أن ذلك المذهب حق.
قوله ثالثًا: إنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليم السحر فكذا الملائكة.
قلنا: لا نسلم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليمه بحيث يكون الغرض من ذلك التعليم التنبيه على إبطاله.
قوله رابعًا: إنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه؟ قلنا: فرق بين العمل وبين التعليم فلم لا يجوز أن يكون العمل منهيًا عنه؟ وأما تعليمه لغرض التنبيه على فساده فإنه يكون مأمورًا به. اهـ.
قال الفخر:
قرأ الحسن: {ملِكين} بكسر اللام وهو مروي عن الضحاك وابن عباس ثم اختلفوا، فقال الحسن: كانا علجين أقلفين ببابل يعلمان الناس السحر، وقيل: كانا رجلين صالحين من الملوك.
والقراءة المشهورة بفتح اللام وهما كانا ملكين نزلا من السماء، وهاروت وماروت اسمان لهما، وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، وقيل غيرهما: أما الذين كسروا اللام فقد احتجوا بوجوه، أحدها: أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر، وثانيها: كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} [الأنعام: 8]، وثالثها: لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلًا وتلبيسًا على الناس وهو غير جائز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنسانًا، بل ملكًا من الملائكة؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا} [الأنعام: 9] والجواب عن الأول أنا سنبين وجه الحكمة في إنزال الملائكة لتعليم السحر، وعن الثاني: أن هذه الآية عامة وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وخاصة والخاص مقدم على العام، وعن الثالث: أن الله تعالى أنزلهما في صورة رجلين وكان الواجب على المكلفين في زمان الأنبياء أن لا يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنسانًا، كما أنه في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواجب على من شاهد دحية الكلبي أن لا يقطع بكونه من البشر بل الواجب التوقف فيه. اهـ.
قال الفخر:
إذا قلنا بأنهما كانا من الملائكة فقد اختلفوا في سبب نزولهما فروي عن ابن عباس أن الملائكة لما أعلمهم الله بآدم وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} فأجابهم الله تعالى بقوله: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ثم إن الله تعالى وكل عليهم جمعًا من الملائكة وهم الكرام الكاتبون فكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح، ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة فأراد الله تعالى أن يبتلي الملائكة، فقال لهم: اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علمًا وزهدًا وديانة لأنزلهما إلى الأرض فأختبرهما، فاختاروا هاروت وماروت، وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب، فنزلا فذهبت إليهما امرأة من أحسن النساء وهي الزهرة فراوداها عن نفسها فأبت أن تطيعهما إلا بعد أن يعبدا الصنم، وإلا بعد أن يشربا الخمر، فامتنعا أولًا، ثم غلبت الشهوة عليهما فأطاعاها في كل ذلك، فعند إقدامهما على الشرب وعبادة الصنم دخل سائل عليهم فقالت: إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا، فإن اردتما الوصول إلي فاقتلا هذا الرجل، فامتنعا منه ثم اشتغلا بقتله فلما فرغا من القتل وطلبا المرأة فلم يجداها، ثم إن الملكين عند ذلك ندما وتحسرا وتضرعا إلى الله تعالى فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا وهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض يعلمان الناس السحر، ثم لهم في الزهرة قولان، أحدهما: أن الله تعالى لما ابتلى الملكين بشهوة بني آدم أمر الله الكوكب الذي يقال له الزهرة وفلكها أن اهبطا إلى الأرض إلى أن كان ما كان، فحينئذ ارتفعت الزهرة وفلكها إلى موضعهما من السماء موبخين لهما على ما شاهداه منهما.
والقول الثاني: أن المرأة كانت فاجرة من أهل الأرض وواقعاها بعد شرب الخمر وقتل النفس وعبادة الصنم، ثم علماها الاسم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت به وعرجت إلى السماء وكان اسمها بيدخت فمسخها الله وجعلها هي الزهرة، واعلم أن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك، بل فيه ما يبطلها من وجوه:
الأول: ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي.
وثانيها: أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟
وثالثها: أن من أعجب الأمور قولهم: إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان ولما ظهر فساد هذا القول فنقول: السبب في إنزالهما وجوه:
أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابًا غريبة في السحر، وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبًا، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد.
وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السحر، فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.
وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحًا عندهم أو مندوبًا، فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله.
ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهيًا عنه وجب أن يكون متصورًا معلومًا لأن الذي لا يكون متصورًا امتنع النهي عنه.
وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورًا يقدرون بها على معارضة الجن، وسادسها: يجوز أن يكون ذلك تشديدًا في التكليف من حيث أنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} [البقرة: 249] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر. والله أعلم. اهـ.